موضوع: ماذا وراء التمويل العربي للاكاديميات الغربية؟ الأربعاء سبتمبر 12, 2012 5:57 pm
بالاضافة للصراع السياسي والفكري المحتدم علنا وسرا بين العالمين العربي والاسلامي من جهة والعالم الغربي من جهة اخرى، ثمة بعد آخر لا يتم التطرق اليه الا لماما، برغم تجلي مصاديقه بوضوح.
فالعلم يمثل عمقا في هذا الصراع، لانه من اهم مستلزمات التفوق التكنولوجي والصناعي. صحيح ان الحديث عنه نادر ولكنه لم ينقطع. وما الحظر الذي تفرضه الجامعات الغربية على الطلبة العرب والمسلمين من الالتحاق ببعض التخصصات العلمية الا مؤشر لذلك. ومن الخطأ الاعتقاد بان الضغوط المتواصلة على ايران محصورة بالجانب الفني من المشروع النووي، بل يتصل بالقدرة على امتلاك دورة تكنولوجية كاملة تؤهل ايران لبناء المفاعلات بدون الحاجة للاعتماد على الغرب. فالدول الغربية دخلت في صفقات كبيرة لبناء عدد من المفاعلات في السعودية والامارات مثلا، فلماذا الاعتراض على المشروع الايراني؟ الغربيون، من الناحية الظاهرية على الاقل، لا يرفضون بناء مفاعل نووي لايران، بشرط ان يقوموا هم بتزويد اليورانيوم المخصب، فليس من حق هذه الدول تخصيب تلك المادة التي هي اساس تشغيل المفاعلات النووية لان ذلك يؤدي الى تطور علمي وتكنولوجي ممنوع على المسلمين. بينما تصر ايران على حقها في التخصيب، وما ينطوي ذلك عليه من امتلاك المعرفة والوسائل الضرورية لذلك، الامر الذي يعني قدرتها على التعمق في البحث العلمي المتصل بالذرة. وبامتلاك عمق علمي بهذا المستوى تستطيع ايران ان تتحول الى قوة علمية وتكنولوجية كبرى كما هي الصين والهند واليابان. وهذا امر يقلق الغربيين بشكل كبير ويدفعهم للاقدام على اية خطوة لاعاقة ذلك التطور. ولو كان الامر محصورا ببناء المفاعلات النووية وفق ما يسمح به الغربيون لما اغتيل علماء الذرة الايرانيون. يضاف الى ذلك ان الاغتيالات لم تبدأ بهؤلاء بل سبقتهم باستهداف العلماء المصريين والعراقيين. وربما من ابشع وسائل الضغط والحصار العلمي اجبار باكستان على اتخاذ اجراءات ضد العقل المدبر لمشروعها النووي، عبد القدير خان، وعزله عن ميدان البحث والتطوير النووي بتهم واهية. برغم هذه الحقائق، لم يتوقف تقديم الدعم المالي من بعض الانظمة العربية للمؤسسات العلمية الغربية. ان ذلك امر ايجابي لو كان الغربيون يتعاملون مع عالمنا بالمثل. اما ان يكون الدعم من اجل تحقيق اغراض سياسية لانظمة الحكم القائمة في العالمين العربي والاسلامي، فان الدعم هنا يصبح تصرفا مثيرا للجدل. وفي العام الماضي ظهرت قضية الدعم الليبي لاحدى الجامعات البريطانية بشكل واضح، واحدثت هزة في العالم الاكاديمي برغم مرور بضعة اعوام على ذلك الدعم. ولكن استهداف نظام القذافي من قبل التحالف الانكلو- امريكي ساهم في اعادة القضية الى الواجهة. وكان سيف الاسلام القذافي قد 'درس' في جامعة لندن للاقتصاد، وقدم لها دعما ماليا بلغ ما يعادل خمسة ملايين دولار، وحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه. ودخلت الجامعة مع نظام القذافي في اتفاق اكاديمي ينص على قيام الجامعة بـ 'تدريب' المسؤولين الليبيين. وبرغم العناوين التي تبدو بريئة، فان هذه الاتفاقات تنطوي عادة على بعد سياسي من بينها انها توفر شرعية للنظام السياسي في البلدان المانحة. فقد جاء الدعم الليبي بعد ان 'تصالحت' بريطانيا مع القذافي، وقام توني بلير بزيارة لطرابلس والتقى الديكتاتور السابق واطرى على 'انجازاته'. ولذلك اثيرت ضجة كبيرة ادت الى استقالة مدير الجامعة، السيد هاوارد ديفيس في مارس 2011. وتواصل السجال الاكاديمي حول مدى اخلاقية التعامل مع الجامعات التابعة لانظمة قمعية استبدادية كنظام القذافي خصوصا بعد ان اتضح ان جامعات بريطانية اخرى كانت بصدد التعاون مع نظام القذافي مثل جامعة هادرزفيلد التي كانت بصدد تدريب مائة من كوادر الشرطة الليبية. وكانت جامعة ولاية ميتشيغان قد تعاقدت مع طرابلس لتدريب المسؤولين الليبيين الكبار. وهي الجامعة التي حصل منها موسى كوسا على درجة الماجستير في 1978. كما تعاونت جامعة أسنت اندروز الاسكتلاندية مع سورية في السنوات الاخيرة. الواضح ان الجامعات البرطانية اصبحت، كبقية المؤسسات العلمية والمهنية، اكثر ميلا نحو الممارسة التجارية، وهو الداء الذي اصبح مرتبطا بالحضارة المعاصرة، شأنها شأن الرياضة والرعاية الصحية. فالعلم لم يعد مجالا نقيا يركز اساسا على كشف الحقيقة الكونية او الاجتماعية، بل اصبح يتحول تدريجيا الى وظيفة ومهنة ومصدر للارتزاق. يقول البروفيسور، أليكس كالينيكوس، استاذ الاقتصاد السياسي العالمي بجامعة كينجز في لندن: 'اصبحت الجامعات البريطانية تحركها اولويات تصوغها احتياجات التجارة الكبيرة. واصبحت هيكليتها موجهة لتوفير الشركات الاجنبية والبريطانية بالبحث الاكاديمي والعمالة الماهرة التي تحافظ على ربحيتها. وفي الوقت نفسه اصبحت تتحول من مؤسسات علمية الى مراكز ربحية تجذب اموالا اجنبية لاقتصاد المملكة المتحدة'. هذه الظاهرة تؤثر بدون شك ليس على صدقية الجامعات فحسب بل على مواقفها واخلاقياتها خصوصا عندما تتعامل مع انظمة القمع والاستبداد. يوازي ذلك في الوقت نفسه توجهات ليبرالية لدى جامعات اخرى، تدفعها للوقوف ضد الاستبداد والاحتلال. وفي العامين الماضيين ظهرت دعوات بريطانية لمقاطعة 'اسرائيل' اكاديميا وطرحت اقتراحات انطلقت على ارضية مشابهة للمقاطعة الاكاديمية للنظام العنصري في جنوب افريقيا قبل ربع قرن. وظهرت اولى الدعوات المنظمة للمقاطعة في رسالة مفتوحة بصحيفة الغارديان في 4 ابريل الماضي موقعة من ستيفن روز استاذ علم الاحياء بالجامعة المفتوحة وهيلاري روز استاذة السياسة الاجتماعية بجامعة برادفورد اللذين طالبا بتجميد كافة الاتصالات الثقافية والبحثية مع 'اسرائيل'. وفي غضون شهور ثلاثة ارتفع عدد موقعيها الى 700 اكاديمي من بينهم عشرة اسرائيليين. المؤسسات العلمية بين السياسة والاقتصاد ستكون مادة للسجال والبحث في السنوات المقبلة، خصوصا في ظل التجاذبات الفكرية والايديولوجية في عالم يبحث عن مخارج للازمات الانسانية الراهنة. وهي ازمات تتحدى الاخلاق والضمير خصوصا مع تعمق الازمات الاقتصادية في العالم الغربي، وجنوح انظمته السياسية للبحث عن مصادر مالية كبرى في مقابل تنازلات عن المواقف والمبادىء. انه ليس امرا جديدا توجه الغربيين نحو مصادر اجنبية للدعم المالي، خصوصا في ظل خفض النفقات وشد الاحزمة. فمثلا عندما حدثت الازمة الاقتصادية قبل عشرين عاما، سعت الحكومة البريطانية آنذاك لتقليص الانفاق العام، والتخلي عن كل ما هو غير ضروري. وكانت حديقة لندن للحيوانات من اولى الضحايا التي صدر قرار بغلقها. ولكن تدخل امير الكويت السابق، الشيخ جابر الاحمد الصباح، وتبرعه بمليون دولار للحديقة، انعشها وحال دون غلقها. حدث ذلك بعد حرب الغربيين ضد العراق بعد اجتياح قواته الاراضي الكويتية. جاءت تلك الخطوة في مرحلة كانت بريطانيا تعيش خلالها واحدة من اكثر فترات تاريخها تراجعا على مستوى الاخلاق في الحياة العامة. السجال الاخلاقي لا ينفصل عن السجال السياسي في الحلقات الاكاديمية والبحثية، ولا يمكن فصل المؤسسات العلمية عن هذا السجال في هذه الظروف التي اصبح البحث عن مصادر التمويل حثيثا لمواجهة استحقاقات الكساد الاقتصادي والتراجع الانتاجي خصوصا في بريطانيا وامريكا. وبدأت الاصوات تتصاعد ضد موافقة اكاديمية 'سانت هيرست' العسكرية على استلام 'منحة' من ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة في وقت يتعرض فيه لانتقادات واسعة بسبب قمعه ثورة شعبية ضد نظام حكمه. فقد قبلت كلية التدريب البريطانية الشهيرة ساندهيرست المبلغ وقيمته 3 ملايين جنيه إسترليني، وذلك بالرغم من الانتقادات العالمية الموجهة للنظام بسبب الحملة الوحشية التي شنها نظامه على المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في العام الماضي. وتكشف الوثائق التي حصلت عليها مجموعة بيورو أن المؤسسة العسكرية العليا للتدريب كانت تتفاوض مع نظام البحرين حول التبرع في العام الماضي 2011. وتسلمت بيورو الأموال في يناير/كانون الثاني، وبعثت برسالة شكر فياضة للملك في بداية الصيف تقديرا لـ 'سخائه وكرمه'. الأكاديمية المسئولة عن تدريب ضباط الجيش البريطاني، ستستخدم المبلغ الذي 'تبرع' به ملك البحرين لبناء صالة رياضية من المقرر افتتاحها في مطلع العام القادم. التبرع هو جزء من العلاقة طويلة الأمد بين العائلة الحاكمة في البحرين وأكاديمية ساندهيرست. وكان حمد بن عيسى آل خليفة قد تدرب في أكاديمية ساري العسكرية (جنوب شرق إنجلترا)، كذلك يتم اختيار مجموعة من العسكريين البحرينيين للتدرب فيها سنوياً. وبرغم ما تقوله السلطات البريطانية بانها تسعى لتطوير معايير اداء العسكريين البحرينيين والشرطة، فان ما حدث خلال العشرين شهرا من الثورة يتناقض مع دعاواها. فمنذ ان استلم جون ييتس (نائب رئيس شرطة لندن السابق، الذي استقال من منصبه ضمن فضيحة التنصت على الهواتف) منصبه في البحرين قبل عام واحد، ازدادت حدة القمع ولم تتحسن اوضاع حقوق الانسان. وتجدر الاشارة الى ان اغلب كوادر الشرطة وعناصر المخابرات تدرب في مؤسسات بريطانية. فمنذ ان استلم الضابط الاستعماري البريطاني السابق، ايان هندرسون في 1966، مسؤولية القسم الخاص البحريني، اصبحت سياسة التعذيب ممارسة روتينية، وتم ارسال عشرات موظفي الامن والشرطة الى كلية هندون لتدريب الشرطة، التي تخرجت منها العناصر التي ادارت جهاز الامن حتى الآن. وقد جاءت 'الهبة' السخية من حاكم البحرين في الوقت الذي ما يزال فيه رموز العلم معتقلين في السجون، ومنهم علماء الدين واساتذة الجامعات ومدرسو الطلاب والطلاب انفسهم. فكيف يستقيم دعم المؤسسات التعليمية في بريطانيا مع قمع مؤسسات التعليم المحلية وروادها؟ يوما بعد آخر يتضح مدى تشوش قيم حقوق الانسان لدى مسؤولي الحكومات الغربية، وينكشف بذلك زيف مقولات احترام حقوق الانسان واستقلال اجهزة الدول عن بعضها، وتحكيم مبادىء حقوق الانسان وقيمها في العلاقات المحلية والخارجية. ويبدو ان ثقافة حقوق الانسان وقيم الديمقراطية شعارات تروج في اوقات السيولة الاقتصادية، ولكنها سرعان ما تضمر وتتراجع عندما تتراجع الحظوظ الاقتصادية لهذه الدول. فالقيم الانسانية في قاموس النظام السياسي العالمي القائم نسبية، وكذلك مقولات الديمقراطية وحكم القانون، وعالمية مبادىء المساواة. كما اصبحت مقولات ترويج الديمقراطية نسبية كذلك ومحكومة بالظروف والمصالح، وخاضعة للتقييم الشخصي والتأويل الحزبي او المصلحي. المشكلة ان هذه الظواهر لا تقتصر على النظام السياسي الغربي، بل تجلت لها مصاديق حتى لدى بعض الاسلاميين الذين وصلوا الحكم مؤخرا، فسرعان ما استبدلت القيم المطلقة باخرى نسبية، وحل الغموض محل الوضوح، واصبح للمبدئية تفسيرات لدى بعض الاسلاميين لا تختلف عما لدى غيرهم. وسيظل السؤال هنا يدور حول استحقاقات المنصب السياسي، وما اذا كان هو الذي يعيد صياغة عقلية من يحتله، ام ان الشخص هو الاكثر تأثيرا في الموقع السياسي الذي يبلغه. * د. سعيد الشهابي – القدس العربي [وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]