الجنون: تأملات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط
الجمل- دانيل كوڤاليك- ترجمة: د.مالك سلمان:
منذ أيام كنت أعيد قراءة مقالة لسيمور هيرش منشورة في 5 آذار/مارس 2007 بعنوان "إعادة التوجيه: هل يفيد أعداؤنا من سياسة الإدارة الجديدة في الحرب على الإرهاب؟". أكتشف أن هذه المقالة متبصرة وتساعد, بشكل خاص, في فهم النزاع الراهن في سوريا. ويشرح هيرش في هذه المقالة كيف كانت الولايات المتحدة, منذ ست سنوات ونصف, تعمل على تغيير سياستها التي تبنتها في "الحرب على الإرهاب" بعد أحداث 9/11 والتي تركزت على محاربة المتطرفين السنة, الممثلين بالقاعدة, والتحول إلى محاربة المنظمات والحكومات الشيعية في الشرق الأوسط بمساعدة نفس المتطرفين السنة الذين كنا نزعم أننا نحاربهم.
وكما يكتب هيرش, "شاركت الولايات المتحدة أيضاً في عمليات سرية ضد إيران وحليفتها سوريا. وقد أدت هذه الأنشطة إلى دعم المجموعات المتطرفة السنية التي تروج لنسخة متطرفة من الإسلام وتعادي أمريكا وتتعاطف مع القاعدة." ويوضح هيرش أن إدارت بوش قررت تبني هذا التوجه الجديد لأنها فوجئت بأن إسقاطها لصدام حسين في العراق قد أدى بشكل غير مقصود, مع أنه كان متوقعاً, إلى صعود حكومة شيعية في العراق صديقة لإيران, مما أدى بدوره إلى تعزيز إيران بشكل يزعج الولايات المتحدة. وقررت الولايات المتحدة أن إيران قد أصبحت تشكل تهديداً للولايات المتحدة أكثر من منفذي هجمات 9/11, ولذلك تعاونت مع هؤلاء بهدف إضعاف إيران وحلفائها من أمثال سوريا.
من الواضح أن أوباما ينتهج هذه السياسة في تحالفه مع الجهاديين في ليبيا لإسقاط معمر القذاقي – أحد أشرس أعداء القاعدة – ومع السنة المتطرفين في سوريا, الذين يرتبط بعضهم بشكل مباشر مع القاعدة, بهدف إسقاط, أو على الأقل إضعاف, الحكومة السورية في دمشق.
بينما يبدو هذا التحالف مربكاً لمعظم الأمريكيين, المدركين له على الأقل, يبدو أن هناك القليل من التعقل في التورط الأمريكي في الشرق الأوسط والشرق الأدنى. ولذلك, ومن ناحية عداوتنا لإيران اليوم (مع أنني لا أنظر إلى إيران بهذه الطريقة), فإنها تأتي كنتيجة مباشرة للانقلاب الأمريكي ضد رئيس الوزراء محمد مصدق في سنة 1953 ودعم الشاه وقوات "الساڤاك" الأمنية التي كانت تستخدم التعذيبَ المنهجي بحق الشعب الإيراني. وقد دعمت الولايات المتحدة الشاه حتى فترة إسقاطه في سنة 1979. لا عجب إذاً أن الحكومة الإيرانية تشعر بشيء من الامتعاض تجاهنا.
بعد سنة 1979, وبهدف إضعاف وسحق "الثورة الإسلامية" في إيران التي اندلعت ضد الشاه المدعوم من الولايات المتحدة, قامت الولايات المتحدة بدعم حرب صدام حسين الوحشية ضد إيران, بما في ذلك قتل أعداد كبيرة من الإيرانيين بالغازات الكيماوية. وفي مرحلة معينة, كانت الولايات المتحدة تسلح إيران في الوقت نفسه مقابل أموال استخدمتها (بشكل غير شرعي) في تمويل إرهابيي "الكونترا" الذين يحاربون الحكومة الثورية الجديدة في نيكاراغوا – بعد أن قامت نيكاراغوا نفسها بإسقاط الدكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة في سنة 1979.
وفي سنة 1979 أيضاً بدأت الولايات المتحدة بتسليح "المجاهدين" في أفغانستان. وعلى العكس من الرأي الشائع, لم تقم الولايات المتحدة بتسليح هذه القوات لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان, وإنما بهدف استجلاب هذا الغزو. وهكذا, وكما اعترف لاحقاً مستشار الأمن القومي الأمريكي زبينيو بريجنسكي, كان تسليح "المجاهدين" يهدف إلى "جر الروس إلى المصيدة الأفغانية وتريدونني أن أندم على ذلك؟ وفي اليوم الذي عبر فيه الروس الحدود, كتبتُ إلى الرئيس كارتر: الآن لدينا الفرصة في إعطاء الاتحاد السوفييتي حربَ فيتنام الخاصة به."
كان أحد القادة الذين أفرزتهم الفوضى في الحرب التي رَعتها الولايات المتحدة في أفغانستان سعودي ثري يدعى أسامة بن لادن قام بتمويل حلفاء "المجاهدين" المدعومين من الولايات المتحدة, ثم انقلبَ لاحقاً ضد الولايات المتحدة بطرق شنيعة من خلال تعليماته, أو إيحائه, بتنفيذ هجمات 9/11 على "مركز التجارة العالمي".
وبعد هجمات 9/11, سارعت الولايات المتحدة إلى مهاجمة حركة "طالبان" في أفغانستان – وهي حكومة نشأت بشكل مباشر عن قوات "المجاهدين" التي رَعتها الولايات المتحدة لجر الاتحاد السوفييتي إلى حرب وحشية في أفغانستان, والمرتبطة بالقاعدة وأسامة بن لادن نفسه. وقد عرضت إيران, العدو اللدود لطالبان والمتطرفين السنة, تقديم المساعدة للولايات المتحدة في جهدها هذا, لكن الولايات المتحدة خجلت من قبول المساعدة.
وفي هذه الأثناء, وبعد انتهاء الحرب الإيرانية- العراقية, وبعد أن فعلَ حليف الولايات المتحدة صدام حسين أسوأ ما يمكنه فعله ضد الإيرانيين, قررت الولايات المتحدة بسرعة بأنه ليس حليفاً موثوقاً بما فيه الكفاية وغزت العراق في سنة 1991, حيث فرضت عقوبات اقتصادية وحشية على الشعب العراقي ثم قامت بقصف العراق بشكل كثيف خللا التسعينيات من القرن الماضي.
ثم, في سنة 2003, قامت الولايات المتحدة أخيراً – زاعمة أنها ترد على هجمات 9/11 – بإسقاط صدام حسين في الغزو الثاني في سنة 2003 – مع أنه لم يكن له أي صلة بهجمات 9/11, وكانت الولايات المتحدة تعرف ذلك جيداً.
ينقلنا هذا إلى الوقت الحاضر حيث تقوم الولايات المتحدة – في فترة "إعادة التوجيه", كما يسميها سيمور هيرش – بدعم القوى المتحالفة مع أولئك المتطرفين الإسلامويين أنفسهم الذين تزعم الولايات المتحدة أنهم نفذوا هجمات 9/11 بهدف إضعاف إيران التي أفادت من الغزو الأمريكي للعراق, وهو غزو تم تبريره بهجمات 9/11 مع أنه لم تكن للعراق أية علاقة بها. هل تتابعون ما أقول؟
من شأن أي شخص ينظر إلى هذه السلسلة من الأحداث أن يستنتجَ بأن التدخلَ الأمريكي في الشرق الأوسط, ناهيك عن تدمير وقتل مئات الآلاف – وربما الملايين – من الناس في تلك المنطقة, كان ضد مصالح الأمن القومي الأمريكي, على الأقل إذا نظر المرء إلى سلامة المواطنين الأمريكيين كجزء من المصالح القومية في هذا السياق. وبالطبع, من الواضح أن قادتنا لا ينظرون إلى المصالح الأمنية القومية من هذا المنطلق. إذ إن المصلحة الوحيدة التي تهم هذه السياسة الخارجية المجنونة هي المجمع العسكري- الصناعي الذي يفيد من هذه السياسة – سواء نجحت هذه السياسة أم لم تنجح بطرق يصنفها معظم الناس العقلانيين على أنها نجاح.
إن الوضع الراهن الآن مرعب, على أقل تقدير.